فقد عرفه كثيرون خاصة في مصر والسودان وأثيوبيا ولبنان وسوريا كرجل الله، رجل صلاة له موهبة صنع العجائب والمعجزات.
انتقل البابا يوساب الثاني في 13 نوفمبر 1956م وظل الكرسي البابوي شاغرًا إلى 10 مايو 1959م يوم سيامة هذا البابا، وفي فترة الانتقال هذه استمرت الصلوات والمشاورات والأصوام لكي يعطي الرب راعيًا صالحًا لكنيسته، وأجريت الانتخابات وتمّ فرز الأصوات لاختيار الثلاثة الحائزين على أعلى الأصوات، ثم أجريت القرعة الهيكلية يوم الأحد 19 إبريل 1959م وفاز فيها القمص مينا المتوحد.
وفي يوم الأحد 10 مايو تمت مراسيم السيامة ودُعي باسم كيرلس السادس مع أن الجميع كانوا يتوقعون تسميته مينا، ولكن البابا كان قد رأى في حلم البابا كيرلس الخامس فطلب أن يحمل اسمه.
نشأته
وُلد الطفل عازر في 2 أغسطس سنة 1902م من أسرة تقية مشبعة بروح القداسة وكان الثاني بين اخوته، وعاشت الأسرة معظم حياتها في دمنهور نازحين من طوخ النصارى، وكان بيتهم محط استراحة الرهبان ومنهم شيخ اسمه القمص تادرس البراموسي الذي قال لأمه عنه يومًا: "إنه من نصيبنا". وفي الإسكندرية أتمَّ عازر دراسته الثانوية، وعمل في شركة ملاحة، وفجأة قدم استقالته من العمل معلنًا رغبته في الرهبنة، حاولت الأسرة والأنبا يوأنس مطران البحيرة والمنوفية آنذاك تثنيته عن عزمه، لكنه كان قد عرف الطريق إلى الله.
رهبنته
ساعده الأنبا يوأنس في طريق الرهبنة بموافقة أخيه ووالده والتحق بالكلية الإكليريكية بمهمشة، وفي 27 يوليو سنة 1927م دخل دير البراموس بتوصية من المطران، ومنذ ذلك الحين لبس جلبابًا أسود وطاقية سوداء. وقد منحه الله نعمة في عينيَّ القمص عبد المسيح المسعودي الذي كان ابنًا له وكان هو أب حنون مدقق معه، ورُسم راهبًا في بداية الصوم الكبير يوم الاثنين 25 فبراير سنة 1928م وتسمى باسم الراهب مينا.
اتّصف بالتواضع الجم وخدمة الشيوخ، بالإضافة إلى حبه للقراءة في سير الآباء وتعاليمهم، فاهتم بمكتبة الدير. وكانت أحب القراءات إليه كتابات مار اسحق السرياني مما جعله ينسخها في خمسة مجلدات، ثم أصدر مجلة شهرية كتوصية أبيه الروحي أسماها "ميناء الخلاص" كتبها بخط يده بعدد رهبان الدير.
سيامته قسًا
رُسِم قسًا الأحد 18 يوليو 1931م على يد أنبا ديمتريوس مطران المنوفية ودرس بعدها في الكلية اللاهوتية بحلوان مع صديقه القمص كيرلس أنبا بولا، ومنذ تلك اللحظة استمر في تأدية صلاة عشية وباكر والقداس كل يوم.
حياة الوحدة
بعد خمس سنوات فقط من رهبنته غادر الدير إلى مغارة للتوحد، وكان يعاود الرجوع إلى ديره مساء كل سبت ويغادره مساء كل أحد. وزاره أنبا يوأنس البابا في وحدته مع سائح أمريكي يرغب الكتابة عن الرهبنة، ومعه مدير مصلحة الآثار شخصيًا الدكتور حسن فؤاد، وبعد مدة سكن في طاحونة في مصر القديمة بموافقة مدير مصلحة الآثار، الذي كان قد زاره من قبل في قلايته. ولم يكن للطاحونة باب ولا سقف، وزامله فيها ذئب كان يأتيه كل مساء ويشرب معه القهوة وفي الصباح يغادر الطاحونة، ثم بمعاونة المحبّين بنى للطاحونة سقفًا ودور ثانٍ ليكون هيكلاً، ودبّر له الله شماسًا ليصلي معه القداس كل يوم.
رئيس دير الأنبا صموئيل المعترف
بمشورة الأنبا يوساب القائمقام البطريركي بعد نياحة أنبا يوأنس البابا المائة والثالث عشر، أصبح القس مينا المتوحد رئيسًا لدير الأنبا صموئيل القلموني، الذي بدأ بتعميره ثانية وتعمير كنيسة العذراء فيه، وكرّسها أنبا أثناسيوس ورقّاه قمصًا فيها، وعادت الحياة إلى الدير على يد ذلك الناسك البسيط.
بناء كنيسة مار مينا بمصر القديمة
وفي مصر القديمة بُناء على رغبته تم شراء أرض أقام عليها كنيسة باسم مار مينا، بعد أن فشل في تعمير دير مار مينا بمريوط، وأقام هو على سطح الكنيسة وأقام فيها بعض غرف للخدمة، وتعليم الشباب الحِرف، وسُكنًا للغرباء، وعاود إصدار مجلة "ميناء الخلاص"، وتخرج من المغتربين الذين سكنوا تحت رعايته الجيل الأول من الرهبان الشباب.
وأعطاه الله مواهب كثيرة منها الإفراز وشفاء الأمراض وإخراج الأرواح النجسة مع أنه ظل غارقًا في صمته وصلواته وأصوامه ودموعه إلى أن وقع عليه الاختيار لكرسي الإسكندرية.
سيامته بابا الإسكندرية
اصطحبه الآباء الأساقفة - حسب طقس الكنيسة - من ديره إلى مقر البطريركية، وفعلاً قصدوا دير البراموس ومنه إلى البطريركية صباح الأحد 10 مايو 1959م.
منذ رسامته أصبح بابه في المقر البابوي بالأزبكية مفتوحًا أمام الجميع ليلاً ونهارًا متخذًا من الشباب تلاميذ له، وكانت خدمته متعددة الجوانب.
من الناحية الروحية كان دائم الصلاة أمام المذبح بمحبة وروحانية ألهبت قلوب الشعب فجذب الجميع إلى محبة الله والكنيسة والآخرين.
ومن ناحية التعمير عزم على تعمير دير قديسه المحبوب مار مينا الذي خُرب في القرن العاشر وعادت الصلوات والألحان والحياة الرهبانية إلى تلك البقعة بمريوط، وكذلك عمَّر أديرة برية شيهيت وأديرة الوجه القبلي، كما وضع حجر أساس كاتدرائية جديدة ومبنى للكلية الإكليريكية بمنطقة الأنبا رويس بالإضافة إلى كنائس عديدة وأديرة للراهبات.
أما من الناحية الثقافية فبالإضافة إلى تشجيع المعاهد الكنسية ورسامة أسقفين أحدهما للتعليم والآخر للبحث العلمي، فقد أقام مبنى خاص للمطبعة التي أهدتها إليه كنيسة النمسا.
ومن الجانب الوطني فقد آثر البابا أن يبدأ خدمته في مصر بما نهج عليه الباباوات على مر العصور، فقام بزيارة رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر يوم الجمعة 12 أكتوبر من نفس العام.
مرّت مرحلة كان فيها جمال عبد الناصر يصوّب سهامه ضد الأقباط بكل قوته. وساءت العلاقات بينه وبين البابا. لم يكن لدي البابا ملجأ إلا الصراخ إلى الله وطلب شفاعة مار مرقس كاروز الديار المصرية.
بعمل معجزي فائق تحوّلت العداوة إلى صداقة، فصار البابا والرئيس صديقين حميمين يزور أحدهما الآخر، وقد ساهمت الدولة في سدّ العجز في إيرادات البطريركية، واشترك الرئيس في حفل وضع حجر الأساس للكنيسة المرقسية الكبرى بالأنبا رويس.
الاهتمام بالعالم الخارجي
في عصره أقيمت كنائس لرعاية الأقباط في أوربا ورسم مطرانًا للكرسي الأورشليمي للحفاظ على أملاك الكنيسة القبطية هناك.
وفي أفريقيا نظم الكنيسة في أثيوبيا رعويًا وإداريًا ورسم لها بطريركًا (جاثليق) هو الأنبا باسيليوس الذي تمت رسامته في مصر في يونيو سنة 1959م وحضرها الإمبراطور هيلاسلاسي وأهدى البابا وشاح سليمان الأكبر، كما زار البابا أثيوبيا في أكتوبر 1960م ولاقى فيها ترحيبًا فاق الوصف.
هذا ولأول مرة في العصر الحديث نسمع عن المجامع المسكونية، فقد ترأّس البابا كيرلس السادس مؤتمر الكنائس اللاخلقيدونية المنعقد في أديس أبابا في يناير سنة 1965م، متفقًا مع بطريرك إنطاكية وبطريرك الأرمن وجاثليق الكنيسة السريانية بالهند على عدة قرارات تؤدي إلى تعميق المفاهيم الأرثوذكسية اللاهوتية.
الكرازة
أما عن العمل الكرازي فقد أوفد البابا عام 1960م من افتقد الكنيسة في دول شرق أفريقيا، وحضور مؤتمر مجلس كنائس أفريقية ومؤتمر الشباب الأفريقي، وفي نفس الوقت شجع قسم الدراسات الأفريقية في معهد الدراسات القبطية لإعداد جيل من الخدام اللاهوتيين والمدنيين للعمل في ربوع أفريقيا، وجاءت وفود أفريقية للدراسة في المعاهد اللاهوتية القبطية بمصر.
نظرة الدولة للمهاجرين في أيام جمال عبد الناصر
كاد أن يغلق الرئيس عبد الناصر الباب على المصريين من جهة ذهابهم إلى أمريكا الشمالية وأستراليا، وكان الجهاز الحكومي المصري يتطلع إلى أي مهاجر ـ وكان معظمهم من المسيحيين ـ أنهم خونة. وكاد غالبية المهاجرين يقطعون الأمل حتى في زيارتهم إلى بلدهم المحبوب لديهم وهي مصر.
كان المهاجرون يخشون الذهاب إلى أية سفارة أو قنصلية مصرية أو أن يلتقوا بأحد المسئولين، ويبذلون كل الجهد نحو إخفاء عناوينهم لئلا يُساء إليهم أو إلى أقربائهم في مصر.
كانت الكنيسة في ذلك العصر بين حجري الرحى، فهي كنيسة وطنية تخضع بكل القلب للسلطة الزمنية، وتحمل كل حب وولاء لمصر، وفي نفس الوقت هي الأم التي لن تتجاهل أو تتخلى عن أولادها أينما وجدوا.
تجلي العذراء مريم
من الأحداث الهامة في حِبْرية البابا كيرلس السادس، تجلي السيدة العذراء فوق قباب كنيستها بحي الزيتون بالقاهرة منذ ليلة 2 إبريل سنة 1976م، ولمدة سنتين وأربعة شهور متتالية. وصاحب التجلي ظهورات سمائية مثل الحمام وروائح بخور ذكية، بالإضافة إلى معجزات شفاء كثيرة لمسيحيين ومسلمين على السواء.
استرجاع رفات كاروز الديار المصرية القديس مار مرقس الرسول
أيضًا من الأحداث الهامة في عصره استرجاع رفات كاروز الديار المصرية القديس مار مرقس الرسول يوم 23 يونيو سنة 1986م، بعد غياب حوالي أحد عشر قرنًا، واستمرت الاحتفالات ثلاثة أيام شاركت فيها الدولة والكنائس الأخرى.
صداقته للقديسين
لم نسمع قط عن إنسان له صداقة مع القديسين مثل البابا كيرلس السادس الذي كثيرًا ما كان يراهم ويحاورهم، خاصة صديقه الحميم مار مينا العجايبي.
نياحته
في 9 مارس سنة 1971م تحققت انطلاقته نحو مشتهى نفسه بعد جهاد مع مرض استمر خمس سنوات، ولم تدم باباويته سوى 11 سنة وعشرة شهور، وظل جالسًا على الكرسي البابوي ثلاثة أيام ألقى عليه أبناءه نظرة الوداع ثم صُلي عليه بالكاتدرائية الكبرى بالأزبكية. ثم بعد ذلك نُقِل جثمانه الطاهر ليدفن تحت مذبح الكاتدرائية الضخمة التي كان قد شيدها في دير مار مينا بمريوط وذلك تحقيقًا لوصيته.
عن قاموس اباء الكنيسة وقديسيها
اصدار كنيسة مارجرجس اسبورتيج