وصلت مدرسة الأسكندرية إلى قمة الأهمية والتأثير على يد خليفة العلامة اكليمندس، وهو أوريجينوس، الذي يقول عنه بروفيسور كواستن أستاذ الباترولوجي الشهير إنه أشهر معلّمي الكنيسة في القرون الثلاثة الأولي وأنه ذو معرفة موسوعية، بل وأحد أكثر مفكري العالم أصالة على الإطلاق.
وقد خصص يوسابيوس جزءً كبيرًا من الكتاب السادس من تاريخه للحديث عن أوريجينوس.
وكتب القس بمفيليوس القيصري دفاعًا عن أوريجينوس وصلنا جزء منه باللاتينية بواسطة روفينوس. وعندنا خطاب القديس غريغوريوس العجايبي في مناسبة توديعه لمعلّمه أوريجينوس يتحدث فيه عنه وعن منهجه التعليمي. ويذكره ايرونيموس في كتابه مشاهير الرجال، وكذلك فوتيوس في مجموعته الكتابية.
وُلد أوريجينوس في بيت مسيحي بالأسكندرية سنة 185م. وأعتني والده ليونيداس (Leonidas) بتعليمه الكتب المقدسة ومبادئ العلوم المدنية. وفي اضطهاد الإمبراطور ساويرس سنة 202 مات والده شهيدًا، وكان أوريجينوس يريد أن يلحق بوالده ليموت شهيدًا معه لولا أن والدته أخفت ثيابه، ولما لم يتمكن من تحقيق شهوة الاستشهاد كتب إلى والده يحثه على الثبات ويقول: ” لا تأخذ طريقًا آخر من أجلنا “. وصودرت ممتلكات العائلة فتولى أوريجينوس إعالة أمه وأخوته عن طريق الاشتغال بالتعليم.
ارتباطه بمدرسة الأسكندرية
وبعد أن تعطلت مدرسة الأسكندرية فترة بسبب ترك اكليمندس لها بسبب الاضطهاد، أقام ديمتريوس أسقف الأسكندرية، أوريجينوس مسئولاً عن مدرسة الموعوظين وهو لا يزال في الثامنة عشرة فعلّم وتعلم في آن واحد، “وعاش عيشة الفلاسفة” على حد تعبير يوسابيوس القيصري (3:6) ” فهذب نفسه بالصوم وتحديد ساعات النوم ولم يتخذ لنفسه سريرًا بل نام على الأرض. واكتفى برداء واحد ومشى حافي القدمين”.
ومما رواه يوسابيوس أيضًا (8:6) أن أوريجينوس أخذ في هذه الفترة من حياته بالمعنى الحرفي للآية 12 من الإصحاح 19 من إنجيل متى ” فخصى نفسه من أجل ملكوت السموات“.
وعلّم أوريجينوس في الأسكندرية ما قارب الثلاثين عامًا (203ـ231) فأصاب نجاحًا كبيرًا. وتقاطر إليه التلاميذ وكثر عددهم فوَّكل إلى تلميذه هرقلاس (Hraklas) تدريس العلوم التي تعد الطلاب لدراسة باقي العلوم مثل المنطق والطبيعة والرياضيات والفلك، وحصر أوريجانوس جهده في تدريس الفلسفة واللاهوت والأسفار المقدسة وأخذ في الوقت نفسه عن أمونيوس سكاس (Ammonios Sakkas) الأفلاطونية الجديدة وتأثر بها في علم الكونيات وعلم النفس.
وقضت ظروف متنوعة في هذه الفترة بأن يغادر أوريجينوس الأسكندرية فزار روما في حوالي سنة 212 في زمن أسقفية زفرينوس والتفي فيها بالقس المعلم اللاهوتي هيبوليتوس.
وقام قبيل سنة 215 بزيارة إلى العربية ليرشد واليها بناء على طلبه. وحينما استولي غضب الإمبراطور كراكلا, على الأسكندرية أباحها لجنوده، فذهب أوريجينوس في حوالي سنة 216 إلى فلسطين.
وهناك طلب منه أساقفة قيصرية وأورشليم أن يعظ ويشرح الكتاب المقدس في ايبارشياتهم، فثارت ثائرة رئيسه ديمتريوس أسقف الأسكندرية وكتب إلى الاخوة الأساقفة في فلسطين لائمًا لأنهم سمحوا لعلماني أن يعظ في حضرتهم، وأمر أوريجينوس بالعودة إلى الأسكندرية فورًا ففعل.
وقد دعت يولية مامية والدة الإمبراطور ساويرس ألكسندروس، أوريجينوس إليها إلى إنطاكية لتسمع من فمه ما كان يقوله في الإيمان المسيحي. فذهب أوريجينوس إلى عاصمة الشرق وقابل الإمبراطورة الوالدة وشرح الإيمان المسيحي هناك وعاد إلى الأسكندرية مكرمًا.
في سنة 231 أنتشرت بعض البدع في الأوساط اليونانية في بلاد اليونان فاهتم ديمتريوس اسقف الأسكندرية بالأمر وطلب من أوريجينوس أن يذهب إلى بلاد اليونان ليفحم المبدعين ويسكتهم. فمر في طريقه بفلسطين فسامه ألكسندروس أسقف أورشليم وثيوقتيستوس أسقف قيصرية كاهنًا.
فاحتج ديمتريوس الأسكندري على هذه السيامة وأعلن بطلانها لأن أوريجينوس كان قد أخصى نفسه. ولكن الفلسطينيين رأوا في ذلك مظهرًا من مظاهر الحسد. فقال أوسابيوس القيصري فيما بعد (8:6) إن ديمتريوس إنغلب من ضعف بشري حين رأي أوريجينوس قد صار عظيمًا شهيرًا عند الجميع. وهكذا عقد ديمتريوس مجمعًا وقطع أوريجينوس وجرده من رتبة الكهنوت ثم جاء هرقلاس خلف ديمتريوس الذي كان قبل ذلك مساعدًا لأوريجينوس، فأعاد قطع أوريجينوس سنة 232.
فخرج أوريجينوس من الأسكندرية وأقام في قيصرية فلسطين، وهكذا بدأت الفترة الثانية من حياته. وتجاهل أسقف قيصرية قرارات الأسكندرية وطلب من أوريجينوس أن يؤسس مدرسة لاهوتية جديدة في قيصرية، فأنشأ أوريجينوس مدرسة جديدة هناك وأشرف عليها عشرين عامًا. ونظمها على غرار مدرسته في الأسكندرية.
فقد جاء في خطاب الوداع الذي ألقاه تلميذه غريغوريوس العجايبي أن برنامج الدروس في قيصرية كل على نفس منهج مدرسة الأسكندرية إذ يبدأ بمقدمة في الفلسفة والهندسة والفلك ثم ينتقل إلى المرحلة المتقدمة إلى علم الأخلاق واللاهوت.
وعندما انجرف بيرلس أسقف البصرة عن التعليم الصحيح وقال بالمونارخية (أي ألوهية أقنوم الآب وحده) فزاره أوريجينوس في سنة 244، ونجح في إعادته إلى الإيمان المستقيم. ثم عصف اضطهاد الإمبراطور داكيوس (Decius) (249ـ251) فذاق أوريجينوس ألوانًا من العذاب، إذ يذكر أوسابيوس عنه: -
[ أما مقدار البلايا التي حلت بأوريجينوس أثناء الاضطهاد، ومقدار شناعتها، وماذا كانت نتيجتها النهائية (فإن شيطان الشر جرَّد كل قواته، وحارب الرجل بكل حيلة وبأقصى جهده، هاجمًا عليه بعنف أشد من سواه ممن هجم عليهم وقتئذٍ)، ومقدار ما تحمله من أجل كلمة المسيح، والقيود، والتعذيبات الجسدية، والتعذيبات بالطوق الحديدي وفي السجن، وكيف مدت قدماه في المقطرة أيامًا كثيرة، وكيف تحمَّل بصبر التهديد بالنار، وكل ما عذبه به الأعداء، وكيف وضع حد لآلامه نظرًا لأن قاضيه بذل أقصى جهده لإنقاذ حياته، وما هي الكلمات التي تركها بعد هذه الأشياء مليئة بالتعزية لكل من يحتاج إلى العون ـ كل هذه تبينها كثير من رسائله بدقة وأمانة] (تاريخ الكنيسة ك6، فصل39).
وتوفي أوريجينوس سنة 253 وله من العمر 69 سنة بعد أن تدهورت صحته بسبب هذه العذابات.
كتاباته
لم يدعُ أوريجينوس إلى الفلسفة ولم يُسق طلابه إليها فإنه كتب إلى تلميذه غريغوريوس العجايبي يشحذ عزيمته على مطالعة الأسفار المقدسة وعلى اعتبار الفلسفة موضوعًا مهدًا:
” إني أرجوك أن تأخذ من الفلسفة اليونانية ما يمكن جعله عموميًا أو ممهدًا لفهم المسيحية ومن الهندسة والفلك ما يفيد في تفسير الأسفار المقدسة. واجعل من الفلسفة خادمة للمسيحية كما جعل أبناء الفلاسفة من الهندسة والموسيقى والنحو والبيان والفلك خدامًا للفلسفة”.
ولكنه على الرغم من هذا التحذير من الفلسفة، إلا أنه لم يفحص بدقة بعض أفكار أفلاطون فتأثر ببعض آرائه وقال بسبق خلق النفوس. وغَالى في ذلك فأثار جدلاً عنيفًا بين الآباء بدأ فرديًا في سنة 300 وانتهى في سنة 543 بقرار مجمعي في القسطنطينية، بحرم بعض التعاليم في الكتابات التي تحمل اسمه، ولم تشترك كنيسة الأسكندرية في هذا المجمع.
وأدى الجدل والتحريم إلى ضياع معظم ما أنتجه أوريجينوس. وما تبقى منه جاء في ترجمات لاتينية لا في الأصل اليوناني. وأعد أوسابيوس المؤرخ لائحة بكتابات أوريجينوس وألحقها بالسيرة التي وضعها بمفيلوس فحوت (2000) ألفين مؤلف. وقد ضاعت هذه اللائحة ولكن ايرنيموس ذكرها في الرد على روفينوس (22:2). وروى ابيفانيوس في الرد على الهراطقة (63:64) أن نتاج أوريجينوس بلغ ستة آلاف رسالة. ويفيد أوسابيوس (23:6) أنه لولا اهتمام أمبروسيوس وسخاء يده لما حفظت أقوال أوريجينوس وآراؤه فإنه وضع تحت تصرف أوريجينوس سبعة مختزلين دونوا محاضراته وعددًا من الناسخين والناسخات الذين يجيدون الخط.
اهتمام أوريجينوس بدراسة نصوص الكتاب المقدس:
عني أوريجينوس عناية فائقة في تحري النصوص المقدسة للمجيء بلفظها الأصلي والتعرَّف على معانيها. ويمكن اعتباره مؤسس علم النصوص الكتابية.
فسداسيه (Hexapla) هي أول محاولة لضبط نصوص العهد القديم. جاء في ستة أنهار متوازية حوى الأول منها النص العبري؛ والثاني النص العبري بالحروف اليونانية؛ والثالث نص الترجمة اليونانية التي تُنسب إلى أكويلة (Aquila)، وهو يهودي عاصر الإمبراطور أدريانوس؛ والرابع نص الترجمة اليونانية التي تُنسب إلى سيماخوس (Summachos) معاصر الإمبراطور سبتيميوس سويروس؛ والخامس نص الترجمة اليونانية السبعينية؛ والسادس نص الترجمة اليونانية التي تُنسب إلى تيودوتيون اليهودي (Theodotion) حوالي سنة 180 بعد الميلاد.
وكتب أوريجينوس نتيجة أبحاثه وتعليقاته في النهر الخامس أي على النص السبعيني. وذكر يوسابيوس المؤرخ أن أوريجينوس أعد أيضًا نصًا رباعيًا (Tetrapla) ضمنه الترجمات اليونانية التي لم يجد لها نصًا عبرانيًا.
وجعل المزامير في نص تساعي (Enneapla) بإضافة أنهار ثلاثة جديدة. ويرجح رجال الاختصاص أن هذه النصوص جميعها بقيت زمنًا طويلاً نسخة واحدة هي نسخة أوريجينوس، وإنه كان لابد لمن يرغب في الإطلاع عليها من زيارة قيصرية فلسطين حيث حفظت في مكتبتها.
أما نص السبعينية الذي جاء في النهر الخامس فإنه نُسخ مرارًا وتكرارًا. ولا يزال لدينا نسخة سريانية كاملة لهذا النهر كله تعود إلى القرن السادس. وفي مكتبة القديس أمبروسيوس في ميلان وفي كنيس اليهود في القاهرة بعض المزامير من سداسي أوريجينوس. وهنالك مقتطفات حُفظت في مصنفات الآباء.
أفكاره اللاهوتية
تعليمه عن الثالوث:
يبدأ أوريجينوس كتابه ” حول المبادئ ” بقوله إن الله “روح” وإن الله “نور” (De Prince 1,1,1) وهو بطبيعته ليس جسدًا، بل يُدرك على أنه طبيعة عقلية غير مركبة، وليس فيه زيادة أو نقصان بل هو واحد ووحيد وهو المصدر الذي تأخذ منه كل الكائنات العقلية وغير العقلية بداية وجودها. وهو الخالق للكل وحافظ الكل وضابط الكل. الله الآب لا يمكن إدراكه في ذاته بل هو يُعرف من خلال الكلمة الذي هو المسيح (De Prince 1,2,8).
وتعبير “الثالوث” مألوف جدًا عند أوريجينوس ويستعمله بكثرة في تفاسيره. ويؤكد على تمايز الأقانيم ويرفض فكرة أن الأقانيم هي مجرد مظاهر متعددة لأقنوم واحد (أي molalism).
ويقول إن الابن مولود من الآب أزليًا، وبدون انقسام كما تصدر الإرادة عن العقل. وإن كان الله الآب هو النور الأزلي، فإنه لا يكون نورًا بدون بهائه أي الابن، وعلى ذلك لم يكن هناك وقت لم يكن فيه الابن موجودًا مع الآب. وبذلك يعتبر أوريجينوس قد قدم ردًا مسبقًا على بدعة آريوس قبل ظهورها، وهي التي علّمت عكس ذلك.
وهو أول من استعمل كلمة أوموأوسيوس (Homoosios) للتعبير عن الجوهر الواحد للآب والابن، التي أدخلها مجمع نيقية في نص قانون الإيمان سنة 325م.
وقد استشهد القديس أثناسيوس بكلام أوريجينوس عن أزلية الابن ووحدته في نفس الجوهر مع الآب، في الدفاع الذي كتبه قانون إيمان نيقية، ومدح أوريجينوس عندما ذكره بوصفه له بأنه ” محب الجهاد والأتعاب”.
تعليمه الخريستولوجي، أي عن المسيح
يعتبر أن نفس يسوع الموجودة قبل التجسد هي الوسيط بين الإله الكلمة اللامتناهي وبين جسد المسيح المحدود. ” ولما كانت طبيعة الله لا تتمازج مع جسم بدون أداة وسيطة وكانت مادة نفس يسوع وسطًا بين الله والجسد، وُلِدَ الإله الإنسان ” Theanthropos “. كما يقول إن ” نفس يسوع باتحادها باللوغوس هي غير قابلة للخطية”.
ويعتبر أوريجينوس أنه قد أعطى للكنيسة اصطلاحاتها الخريستولوجية الشهيرة: Physis, Hypostasis, Ousia, Homoousios, Theanthropos.
العذراء
استعمل أوريجينوس تعبير ثيئوتوكوس (والدة الإله) عن العذراء. كما يقول عن العذراء إنها أم المؤمنين جميعًا أيضًا، إذ يقول: ” لا أحد يستطيع أن يفهم معنى إنجيل يوحنا، إن لم يكن قد إتكأ على صدر يسوع، واستلم مريم من يسوع أمًا له أيضًا ” (على يوحنا6:1).
الكنيسة
يقول أوريجينوس إن الكنيسة هي جسم المسيح المنظور. فكما أن الروح تسكن في الجسد هكذا يسكن الإله الكلمة في الكنيسة كأنها جسده. وهو أساس حياتها الذي يقودها ويحرسها. هذه خلاصة ما قاله في الرد على كلسوس (48:6). وجاء في تعليقه على إرميا (2:9) وعلى هوشع (7:8) أن الكنيسة هي مدينة الله على الأرض قائمة إلى وقت ما إلى جانب الدولة تتآلف شرائعها والشرائع القائمة. ولكن سيأتي زمن تتغلب فيه الكنيسة على الدولة (الرد على كلسوس22:4 و72:8) وهي إذ تستنير بنور الكلمة ستصبح عالم العالمين (التعليق على يوحنا59:6).
المعمودية
يقول إن المعمودية أُعطيت لغفران الخطايا. وأن الكنيسة استلمت من الرسل تقليد تعميد الجميع بما فيهم الأطفال.
التوبة وغفران الخطايا
توجد عدة طرق لنوال الغفران عن الخطايا التي ترتكب بعد المعمودية، يذكر منها أوريجينوس: الاستشهاد، وخدمة المحتاجين، والغفران للمسيئين إلينا، وهداية إنسان خاطئ، ويذكر أيضًا التوبة والاعتراف. ويصف الكاهن الذي يقبل الاعتراف بأنه طبيب يجب أن يرشد المعترف إن كانت خطيته تحتاج إلى اعتراف علني أمام الكنيسة لأجل الشفاء منها أم لا.
الإفخارستيا
يؤمن أن الإفخارستيا هي جسد الرب. وأنها ذبيحة وكفارة إذ يقول: [ أنت ترى كيف أن المذابح لم تعد ترش بدماء العجول بل تتقدس بدم المسيح الثمين] (In Jesu Nave 2,1).
تعليمه عن الخلاص الشامل
كان يرى أن الكلمة ابن الله بسبب محبته يطهر نفوس الناس حتى بعد انتقالهم ويغلب الشر الذي فيهم حتى يصير الله “الكل في الكل” أي أن صلاح الله سيغلب الشر ولذلك لن يكون هناك عذاب أبدي. والعدو الأخير الذي يسمى الموت يتحول ولا يبقى عدوًا، والشر يتلاشى (De prin.3,6,3).
د. نصحي عبد الشهيد
المركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية
patristiccairo.com