أفرآم السرياني .. في مدح القديس يوليانوس الناسك

ميمر للقديس مار أفرآم السرياني [1] 
في مدح القديس يوليانوس الناسك 
إنّ هذا الفاضل في النسّاك كان مملوكًا (أي عبدًا)، وكانت أوائله - كما حدّثنا هو - غير مرضية، عاش فيها بالقبائح، ثم وصل أخيرًا إلى المعرفة وسار سيرةً حسنة.
وقد أصابته شدائد من سيِّدِه في مدينة بعلبك التي في لبنان لأنه كان قد اشترك في عبادة الأصنام، ولما مات مولاه زهد في العالم وأحبّ الرب من كل نفسه وقلبه حتى قوَّم تقريبًا كل فضيلةٍ، لأنه اقتنى تخشُّعًا كثيرًا وتواضعًا زائدًا، ولم يصِر مثل الذين بعد انصرافهم من العالم يتوانون في تقوى الله فيهلكون لأنهم يبذلون ذواتهم للتواني والبطالة وعدم العمل بوصايا الله، ولا يمنطقون أحقاءهم بالعفّة فيُغرِقون أنفسهم في قعر (أي عمق) المساوئ، حتى إنّ قومًا وهم لابسين زيّ الديانة البهيّة تورّطوا في الرذيلة بسبب شهواتهم فجعلوا ذواتهم مسكنًا لعسكر الشياطين ... 
هذا يا إخوتي ما يفعله التواني في الصلاة الجامعة وعدم مداومة الصلاة والتيقُّظ فيها، لأنّ الترتيل والصلاة بتواضع الفكر يخففان عن العقل الآلام المحظورة (أي الشهوات) ويجعلان النفس يزدهر شبابها لاشتهاء الخيرات السماوية.
وكما أنّ محادثة الله بالصلاة النقية تجعل في النفس تواضعًا، كذلك مخاطبة الملوك تنتج استعلاء رأي للذين لم يقتنوا المخافة الفاضلة.
فمصاحبة الملك هي إذن أتون وموضع تصفية حيث يتضح المختبرين والمنافقين. 
أما الذين جعلوا الله أمام أعينهم كل حين فهم يرفضون بالتقوى المفضّلة أوجاع الأمور المنظورة، فلذلك مغبوطٌ هو الزاهد في العالم، هذا المتصرِّف في رفقة القديسين وفي طاعة الآباء الروحانيين، الذي يكمِّل سيرته بضميرٍ نقي، فهو لا يخزى في قيامة الصدِّيقين، لكن الويل لمن يُخالِط ويُعاشر قومًا لا برّ فيهم ولا طاعة لهم، فإنه سيُبصر أيامًا مُرّة، لأنّ التأمُّر والتفرُّد بالرأي واتِّباع مشيئة الذات تجعل الإنسان مقفرًا من الثمار والمواهب الروحانية، ومَنْ يُتمِّم كل أفعاله بإنصافٍ فهو مغبوط. 
أما المغبوط يوليانوس فإنه أمات ذاته من الأمور العالمية واختار الزيّ النسكي ومكث في قلايته، وكانت قلايتي بقرب قلايته، وكنتُ أزوره في قلايته لأنني كنتُ أنتفع من محادثة ذلك الإنسان وأتعجب عندما أُبصر مثل ذلك الفهم في إنسان أعجمي لأنه كان من النواحي الغربية، وكنتُ أمجِّد الله الذي لا يشاء أن يهلك أحدٌ بل يجتذب الكل إلى التوبة، وكنتُ أتذكر الفصل الإنجيلي القائل: ( أقول لكم: إنّ كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات، وأما بنو الملكوت فيُطرَحون إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان) (مت8: 11و12) ...
وكنتُ أتنهّد قائلاً: ” يا رب نجِّنا من الظلمة الخارجية ومن صرير الأسنان، واذكرنا في سرور شعبك، واجعل لنا شركة في خلاصك لنعاين صلاح مختاريك ونفرح بسرور أُمّتكَ (أي شعبك) ونُمدَحُ مع وارثيك.
اُذكرنا يا رب كاللص متى جئتَ في ملكوتك، وفُكّ أجسادنا من القيود بمجد نعمتك مؤهِّلاً إيانا لاختطاف الصدِّيقين في السحب لنرث جبلك المقدس بشفاعات قديسيك آمين “. 
وكان المغبوط يوليانوس قويًّا، ولكن اعتراه السقم من كثرة النسك لأنه سلك وراء القديسين. وكان لا يعرف هذا المحب لله الكتابة، فحرص على أن يتعلّمها. وكانت له قلاية يخلو فيها إلى ذاته، فيها مضجعٌ صغيرٌ، ولم يكتفِ بضيقه حتى ابتنى له داخلها موضعًا صغيرًا كالقبر، وجعل مدخله ضيِّقًا جدًا، فكان يدخل فيه كأنه في قبر ... 
وكان يصلِّي باكيًا ويعمل بيديه قلوع المراكب، وأحبّ جدًّا التخشُّع والبكاء اللذين لم يحبهما آخر مثله، حتى إنّ المجتازين بقلايته كانوا يسمعون صوت بكائه مثل مَنْ دفن أباه أو ابنه وحيده، وكان يندب بلحن لأنه كان يضع خطاياه نُصب عينيه ويبكي بتوجُّع نهارًا وليلاً، وكان ينام في الليل نومًا يسيرًا لأنّ الاهتمام بالمجازاة (يوم الدينونة) قد استنهضه إلى الحرص.
أما مقدار جملة المحن والأحزان التي احتملها من الإخوة المتوانين فلم توصف، وكان يجتازها كلها بالتواضع والصبر غير متضرِّرٍ منها، وكان مسالمًا صبورًا وديعًا ورعًا لا قنية له، لأنّ المعتكف في البرية بأمتعةٍ يكون ضيِّق الذهن مرتعدًا في كل وقت وفي كل موضع، وأخيرًا يصير صيدًا لفاعلي الشر، أما الفاقد القنية فذاك يكون مطمئنًا من الاغتيال. 
وكان أيضًا لا يكسل بل كثير النشاط في العمل، ممتنعًا من القرف، متواضعًا في الكلام وفي الفعل وفي المشي، لأنه لم يكن مثلي ومثل نظرائي المتوانين يقضي أيامه في التواني، بل استكمل بالتخشُّع سائر أيام حياته.
وكما أنّ الجالسين في السجن مقيّدين إذا خرجوا إلى مجلس الوالي يرتعدون من الخوف، كذلك المغبوط يوليانوس كان يتذكر متواترًا مجلس قضاء المسيح المرهوب، فلذلك كان يبكي دائمًا مكرِّرًا التفكُّر في يوم الدينونة المنتظرة. 
إنه حيث يكون التخشُّع والدموع والتواضع لا يوجد عدم الترتيب ولا أمرٌ طالحٌ، بل حُسن الترتيب والصلاح. وكان يوليانوس يعتفي من مخاطبة النساء، ويقطع سائر أسباب اللذات الباطلة. ومتى ضُرب الناقوس للصلاة الجامعة كان يجتهد أن يسبق فيلتقي كل أخ يجيء إليها. وهكذا كان يقف في الصلاة ونظره ثابتٌ كأنه ماثلٌ أمام عرش ربنا يسوع المسيح نفسه. 
وفي أحد الأيام قلتُ له: ”تُرى مَنْ الذي يمحو المصاحف التي هنا؟ لأنه حيثما يكون مكتوب اسم الله أو الرب يسوع المسيح أو المخلِّص أجد حروف هذه الألفاظ المكتوبة ممحاة“! فقال المغبوط: ”لا أكتم عنك شيئًا، إنّ الزانية تقدَّمَت إلى المخلِّص وقبَّلَت قدميه بعَبَراتها ومسحتهما بشعر رأسها، وأنا متى قرأتُ الكتب فحيث أجد اسم إلهي مكتوبًا أبلُّه بدموعي لكيما آخذ منه غفران الخطايا“.
فأجبته مسرورًا: ”إنّ الله متعطِّفٌ على الناس، وقد قَبِل نيتك، فأطلبُ إليك أن تُشفق على المصاحف“. فقال لي: ”لا يتندَّى قلبي إن لم أبكِ قدّام الرب إلهي“! ولقد عاش في النسك بحرارةٍ متوقِّدة أكثر من خمس وعشرين سنة، ثم انتقل بالرب. 
تحمَّل القديس الاضطهاد والطاعة، فصار مستحقًا للتطويب من القائل: (طوبى للمساكين بالروح لأنّ لهم ملكوت السموات) (مت5: 3).
إنّ عينيَّ لَتسكبان الدموع على مفارقة إنسان الله ...! 
سأل المغبوط يوليانوس يومًا ما أحد الإخوة قائلاً: ”إنّ أخًا أراد أن يدخل البرية الجوانية يلتمس أناسًا يُبصرون المناظر المعقولة، فأسألك أن تُشير عليَّ من أجل الرب إن رأيتَ أن أذهب معه أم لا“. فلما علم الأخ أن يوليانوس عمّالاً قال له: ”الأفضل أن يسكت الإنسان ويبتغي في السكوت الكمال، لأنّ مَنْ يستفحص عن أمور صغيرة غير ثابتة وهو يجول في البرية فليس ذلك محمودًا“.
فسأله المغبوط: ”ما هو الكمال؟ وما هي الأمور الصغيرة غير الثابتة“؟ فقال له الأخ: ’’الكمال هو غاية كل قول وكل فعل، لأنه قد كُتِب: ( فلنسمع ختام الأمر كله: اتّقِ الله واحفظ وصاياه) (جا12: 13).
أما الأمور التي تعرض لكل واحدٍ منا في هذا الدهر إن كانت محزنة أو صالحة فلها نهاية، فلذلك تبطل بانتهاء الزمان. فأمّا التي تعرض عند الخروج من هذا العالم فهي غير مائتة، فليكن في فكرنا يوم الدينونة والمجازاة“. 
’’لتكن عقولنا كاملة بالرب، ولا نفعل مثل اثنين سافرا إلى بلدةٍ بعيدة، فضجر أحدهما في الطريق وظلّ يسأل الذين صادفهم عما لقيهم في الطريق قبل عشر علامات منه، فأجابه أولئك: ’إنّ الطريق صعبة‘. فسألهم قائلاً: ’وماذا بعد الطريق الصعبة‘؟ فقالوا: ’أرض يانعة مخضرة‘. فلما رأى رفيقه أنه يسأل عن أمور الطريق باهتمام قال: ’كُفّ أيها الرفيق عن الفحص عن أمور الطريق التي أنت عازمٌ أن تسلكها مثل ساعٍ سبّاق، لأنّ الطريق يشبه العمر الإنساني‘“! 
’’فمن أجل هذا يجب أن نترقّب بالأكثر لا ما نصادفه في سيرنا بل ما يعرض لنا بعدها عسى أن نستوطن في تلك البلدة براحة، تلك البلدة التي نزمع أن نقيم فيها على الدوام بعد كمال العمر وانصرافنا من هنا، تُرى أين يكون مسكننا في ذلك الدهر؟ أين يكون حظُّنا، في العمق أم في العلا؟ في النياح أم في الأوجاع؟ في الظلمة أم في النور؟ في النار أم في النعيم؟
فلتبحث أرواحنا عن كل هذه ولتتكلَّم بها أفواهنا. ولا يبعد مثل هذا الاهتمام عن قلبنا ما دمنا في هذا العمر الوقتي، ولنتجنّب الذين يرومون تعويقنا عن مثل هذا الاهتمام بما أنهم يُسبِّبون الطغيان والهلاك، لأنه ليس أحدٌ مضى إلى هناك ثم عاد إلى هذا العالم“. 
’’فلنهتم إذًا، أيها الابن، بما نُزمع أن نظهر به من الدالة قدام ملك المجد، ولنحرص أن نضع أنفسنا في (مجال) تعطُّفه ليعضد ضعفنا ولا سيما حين نتعرّى من كل لباس إنساني، لأنه لا بدّ أننا سنترك كل شيء ونذهب إلى هناك، فإن لم نرسم في ذهننا كل حين الدينونة العتيدة فلن ينفعنا شيء حين تظهر الخفيات والمكتومات، لأنّ يربعام بن نباط الذي أخطأ إلى إسرائيل سمع وقتًا ما بالرجز العتيد أن يُصيبه من قِبَل الرب ولم يتُب عن شرِّه. 
وجيحزي وُبِّخ على ذنوبه المكتومة فلم يقوِّم خُلُقه، وإلاّ لما كان قد تركه معلِّمه في البرص، لأنّ الذي طهّر نعمان السرياني رئيس جنود الشام بكلمة الرب من مثل ذلك البرص كان يسهل عليه أكثر أن يُزيل مصاب تلميذه. 
فلنحصِّل إذًا في أذهاننا كمال هذا العالم الحاضر لكي نُنهِض عقولنا النائمة بانتظار الخوف المستأنف إلى إتمام الأعمال الصالحة وحفظها، لأنّ العمر أخفّ من الساعي“! 
’’فلنكن إذًا خائفين جدًا أن نوجد هناك بسبب التواني في هذه الحياة تحت سخط ملك المجد فنُرسَل إلى الظلمة القصوى، فإنّ الذين يذهبون إلى هناك لا راحة لهم من العذاب، ولا يستريح المسجون من قِبَل خطاياه، ولا ينفك من القيود، لأنّ هناك نارٌ لا تنطفئ ودودٌ لا يموت وعمق هاوية مظلمة وولولة رهيبة وبكاء وصرير أسنان وشدائد ليس لها نهاية، ولا يوجد بعد الموت راحة منها ولا حيلة ما ولا صناعة تنجِّي أو توقف العذابات، لكن كل هذا يمكننا أن نخلص منه الآن إن سمعنا صوت ربنا وإلهنا الذي من فرط تعطُّفه كرز به بنفسه وعلَّم بني البشر كمال كل قول وتمام كل فعل لكي يصيروا سامعين له“. 
’’فلكي ننجو من مختلف العذابات ونؤهَّل للخيرات يلزمنا حتمًا أن نحفظ بتواضع كثير أقوال الرب، لأن حفظ وصاياه هو الكمال، والذين صبروا عاملين بوصاياه نالوا الكمال منتظرين إياه باستقامة قلب، وفي كل ساعة يتصورون مجيئه المجيد وجلوسه على عرش مجده حين يميِّز الصالحين من الخطاة ويكافئ كل واحدٍ نظير أعماله.
فلنحفظ إذًا أيها الابن المحبة النقية لكي إذا قوّمنا بـها الفضائل نؤهَّل للوقوف عن يمين ابن الله الوحيد وتُسَرُّ قلوبنا، وسرورنا لا ينتزعه أحدٌ منا“. 
فقبِل الأخ الوعظ قبولاً حسنًا وثبت في السكون شاكرًا ربنا يسوع المسيح الذي له المجد إلى كافة الدهور آميـن.

عن فردوس الاباء . ( قصص واقوال اباء البرارى القديسين محققة من مصادرها الاصلية ) . الجزء الثالث .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- المقالة رقم 34 من مقالات مار أفرام السرياني