الآباء فى مواجهة الهرطقات - اغناطيوس

مقدمة 
الآباء هم أعضاء أحياء فى الكنيسة جسد المسيح,
 والكنيسة عاشت وتعيش تعاليمهم الأرثوذكسية الأصيلة مقتفية آثار تقواهم,إذ أنها رأت فيهم ـ بوعيها العميق ـ استمرارًا وامتدادا للرسل.
فقد سلم الرسل الأثنى عشر خدمتهم الشخصية ـ وهى التعليم ـ لآباء الكنيسة كما يقول القديس ايريناوس[1],
وهذا ما دعا كنيستنا الملهمة بالروح أن تلقب أبا ومعلما فيها, وهو القديس أثناسيوس بلقب الرسولى, أى أنه أمتداد للرسل فى القول والفعل فترتل له قائلة:
 [ أيها الراعى الأمين الذى لقطيع المسيح البطريرك المكرم أثناسيوس رئيس الكهنة الذى بتعاليمه المقدسة ملأت العالم كله... الذى صار رسولا مثل التلاميذ فى القول والفعل][2]
ولقد تنبهت الكنيسة كلها ومنذ وقت مبكر جداً لقيمة إسهامات الآباء اللاهوتية بكتابتهم وتعاليمهم فى تحديد وصياغة مضمون الأيمان, والمحافظة على التقليد الرسولى الذى استلمته الكنيسة من تلاميذ الرب نفسه, ودورهم الهام فى مواجهة الهرطقات والأفكار غير السليمة التى تهدف إلى تقسيم الكنيسة والى إلغاء حقيقة الفداء وأهميته. 
ولما كان من الصعب ـ نظرا لضيق الوقت ـ تتبع دور كل آباء الكنيسة فى مواجهة الهرطقات سنكتفى فى هذه المحاضرة, بالحديث عن شخصية وتعاليم القديس أغناطيوس الأنطاكى (حامل الإله)، باعتباره أول أب ومُعلّم للكنيسة وأول لاهوتى عظيم من بعد الرسل الأطهار.
 فما تحمله كتاباته وتعاليمه من حقيقة وأقناع وموضوعية تعطى عنه انطبعا حقيقيا كأب ينتمى لعصر الآباء الرسوليون. فقد استطاعت الكنيسة وبأسهامات القديس أغناطيوس, أن تتقدم فى البناء اللاهوتى لمسيرتها, وأن تواجه مشاكل هذا العصر على أساس لاهوتى, إذ أنه بواسطة القديس أغناطيوس تأسس المبدأ الذى أصبح ساريًا فى تاريخ الكنيسة كلها ألاّ وهو أن المشاكل الحساسة يجب أن تواجه بحلول لاهوتية لكى تتضح الحقيقة المتعلقة بهذه الأمور.
ففى شخص القديس أغناطيوس تخطت الكنيسة بالفعل الحلول السهلة التى اعتمدت على الأخلاق والفضيلة والتى انبثقت من اليهودية واليونانية, بل وعلى نطاق أوسع أثبت الشهيد أغناطيوس أن اللاهوت المسيحى يستطيع استخدام اللغة الفكرية لعصره (يهودية, يونانية, غنوسية) بدون أن يتأثر بها.
فاللاهوت الكنسى له طريقه الخاص بافتراضاته وأهدافه والتى يستطيع المرء أن يلتمسها فى إطار الحق الكنسى. 
ولهذا ونحن نعيش اليوم عصرًا رهيبًا يهدد حياتنا الروحية, ونعيش عالما مليئا بالأفكار الغريبة, عالم لم يعد فيه الرب هو مقياس كل الأمور, بل الإنسان.
 بل صارت الأيدولوجيات فيه والمثل العليا, لا الإيمان هو الذى يحدد الحالة الروحية للعالم الذى أعلن المسيح أنه منحنا إياه. علينا إذًا ونحن نواجه هذا الوضع الخطير أن نولى اهتمامنا بتراث آباء الكنيسة وأولهم القديس أغناطيوس, لما فيه من تعاليم عقائدية ولاهوتية تصلح لمواجهة أمور كثيرة تشتت أفكارنا وتتعب خدمتنا. 
حياته 
من النادر أن يحتفظ التاريخ بمثل هذا القدر الضئيل من المعلومات عن حياة رجل عظيم كالقديس أغناطيوس, فليس لدينا أية مصادر عن مصادر حياته الا رسائله.
ولأن هذه الرسائل ليست رسائل تاريخية ولا سيرة ذاتية فلهذا فهى لا تمدنا إلا بمعلومات بسيطة للغاية عن الكاتب نفسه، كما يذكر المؤرخ يوسابيوس بعض الأمور عنه من كتاباته حيث سجل لنا قصة استشهاده [3]
كان القديس إغناطيوس ثانى أسقف لإنطاكية . بدأ أسقفيته فى سنه 70م. علاقته بالآباء الرسل أكيدة. نما وتربى فى بيئة وثقافة على الأرجح يونانية كما يتضح من أسلوبه اللغوى العميق فى رسائله.فنصوص القديس إغناطيوس تُظهر لا ثقافة عالمية لكن موهبة قيّمة فى الكتابة. ويميل أسلوبها إلى الشعر.
 فى إنطاكية (حاليا على الحدود بين تركيا وسوريا) تعرّف القديس اغناطيوس على العلوم الفلسفية والدينية السائدة فى عصره. غير معلوم كم كان عمرة وقت سيامته أسقفاً، غير أنه من المؤكد أن مهابته وسلطته الروحية قد تجاوزت حدود إنطاكية إلى كل منطقة سوريا وبلغت شهرته أبعد من ذلك أيضا وهذا يتضح من الاحترام الشديد والثقة غير المحدودة التى كان يكنها له كل مسيحيى آسيا الصغرى وروما.
نحن آذن بصدد أسقف له مهابة فى كل المسكونة. وأثناء الاضطهاد الذى شنه تراجان (98ـ117) الإمبراطور الرومانى قُبض عليه وحُكم عليه بالموت كفريسة للأسود فى كولوسيوم روما. لا نعرف بالضبط متى كان هذا.
 اقتيد القديس اغناطيوس إلى روما محاطاً بالحرس الذين أطلق هو نفسه عليهم اسم " النمور" لسوء معاملتهم له. وفى أثناء رحلته هذه إلى روما توقف فى مدن أسيا الصفرى فلادليفيا، سيمرنا، طرواده، والتى منها أكمل رحلته عبر فيلبى (مكدونيه) دراخوريا (البانيا) برنيزى (إيطاليا) وفى روما صار طعاماً للأسود بعد أن توسل إلى مسيحيى روما أن لا يبدلوا طريقه استشهاده هذه، بطريقة أخرى . 
لقب حامل الإله : 
أطلق القديس اغناطيوس لقب "حامل الإله" على نفسه، لكنه لم يعطِ لذلك تفسيراً، فحسب التقليد كان هو ذلك الطفل الذى أقامه المسيح بين يديه كمثال للبراءة والصلاح (مت1:18) كما ان هناك تفسيراً آخر حسب التقليد يقول ان المسيحيين شاهدوا بعد استشهاده اسم المسيح ظاهراً على صدره.
غير أنه من الواضح ان القديس أغناطيوس أطلق على نفسه هذا الاسم لأنه عاش حياته فى المسيح فى قناعه عميقة بعلاقة حيه وشركة مع الرب يسوع . 
كتاباته 
كتب القديس اغناطيوس سبعه رسائل فى أواخر أيام حياته، ولقد أعطت تلك الرسائل تقديراً واحتراماً عظيمين للشهيد اغناطيوس كأول لاهوتى عظيم من بعد الرسل وأول أب ومعلم للكنيسة . 
وليس لدينا أية أثار لكتابات أخره له. غير أن الأسلوب الذى كُتبت به الرسائل والتعاليم التى وردت بها لا يمكن أن تعطى انطباعاً ان كاتبها لم يكتب غيرها من قبل (وخصوصاً أنه كان قد كتبها بسرعة وفى سفر) بل أن له خبرة واسعة فى الكتابة من قبل.
فالرسائل تعكس فكراً عميقاً وواسعاً وأيضاً فرادة وسبقاً فى التعبير عن هذا الفكر وعن مقدرة فى استخدام الأساليب اللغوية . 
والرسائل سبع وهى الرسائل إلى أهل أفسس وإلى مغنيسيا، إلى تراليا وإلى أهل رومية وقد كتبها من سيمرنا (أزمير). والرسائل إلى فلاديفيا وسيمرنا والرسالة إلى بوليكاربوس وقد كتبها من طرواده (ترواس). وكان القديس الشهيد بوليكاربوس هو أول من حدثنا عن نصوص هذه الرسائل. وهناك رسائل أخرى تنسب للقديس اغناطيوس ولكنها فى الحقيقة ترجع إلى القرن الرابع وليست من ضمن رسائله المعروفة. 
تعاليمه اللاهوتية : 
تعكس رسائل القديس اغناطيوس تعاليماً أصيلة تبنتها الكنيسة وأصبحت جزءً من إيمانها وتقليدها وذلك لأنها تعاليم لاهوتية رعوية تعبر عن التقليد الرسولى واستمراريته وهى تعاليم مرشدة الروح القدس كما يؤكد هو نفسه. ويمكن تقسيم تعاليمه اللاهوتية إلى النقاط الرئيسية الآتية : 
1 ـ ما يختص بأهمية خدمة الأسقف وعملة . 
2 ـ ما يختص بوحدة الكنيسة . 
3 ـ حقيقة سر الافخارستيا . 
وقبل أن نبيّن كيف واجه القديس اغناطيوس الأفكار الخاطئة التى كانت منتشرة فى عصرة بخصوص هذه الأمور، سوف نورد بعض الفقرات التى جاءت فى رسائله ويحذّر فيها من الهراطقة وأفكارهم الخاطئة وأعمالهم المفسدة ويوصى المؤمنين بما يجب أن يفعلوه . 
1 ـ من رسالته إلى أهل أفسسس : 
+ " هناك أناس يكرزون بأسم المسيح فى رياء وخداع ويقومون بأعمال لا ترضيه... يجب أن تبتعدوا عن هؤلاء كابتعادكم عن الوحوش المفترسة.. تجنبوهم لأن الشفاء من عضهم عسر " (الفقرة السابعة)
+ " علمت أن بعض الناس مروا بأفسس وحاولوا أن يزرعوا زرعاً فاسداً فلم تسمحوا لهم بأن يلقوا بذارهم وسددتم آذانكم عن سماع تعاليمهم " (الفقرة التاسعة)
2 ـ من رسالته إلى أهل تراليا : 
+ " أرجوكم أذن، لا أنا بل محبة يسوع المسيح، أن تستعملوا الغذاء المسيحى وتبتعدوا عن الأعشاب الغريبة أى الهرطقات. ولكن يحظى الهراطقة بثقة الناس يمزجون السم بالخمر والعسل، حتى إذا تناوله الإنسان يستطيب اللذة الرديئة ويموت " (الفقرة السادسة) 
+ " احذروا من هم على هذه الشاكله ، وذلك بتجنبكم الكبرياء وباتحادكم مع ربنا يسوع المسيح ومع الأسقف ومع تعاليم الرسل. من كان داخل المذبح فهو النقى ومن عمل خارج إرادة الأسقف والقساوسة والشمامسة فضميره غير نقى " (الفقرة السابعة)
+ "هذا لا تعنى أنكم تسلكون هكذا لكننى أريد مدفوعاً بعامل محبتى لكم ان استدرك واحذركم من المكائد الشيطانية التى قد تتعرضون للسقوط فيها، تسلحوا اذن بعذوبة الصبر وتجددوا فى الإيمان الذى هو جسد الرب وفي المحبة التى هى دم يسوع المسيح " (الفقرة الثامنة)
+ " ابتعدوا عن هذه الأغصان الطفيلية، لأنها تحمل أثمارًا سامة تقتل كل من يتذوقها فوراً. لم تكن هذه الأغصان من غرس الآب ، لو كانت من غرسه لظهرت فروعاً للصليب وكانت ثمارها غير فاسدة " (الفقرة11). 
3 ـ من رسالتة إلى أهل فلادلفيا : 
+ " اهربوا يا أولاد النور الحقيقى من الانقسامات والعقائد الفاسدة اتبعوا راعيكم كالخراف. اتبعوه حيث يكون. ما أكثر الذئاب التى تحاول ان تأسر باللذة الشريرة أولئك الذين يجتازون طريق الرب. لا مجال لمثل هؤلاء في وحدتكم" (الفقرة الثانية)
+ " ابتعدوا عن الحشائش السامة التى لا يحرسها المسيح لانها ليست من أغراس الرب. من اتبع الشقاق لا يرى ملكوت الله. ومن اتبع فكرة غريبة لا ينسجم مع الآم المسيح " (الفقرة الثالثة)
+ " إياكم والاشتراك إلا فى سر الشكر الواحد, لأنه لا يوجد غير جسد واحد لربنا يسوع المسيح وكأس واحد توّحدنا بدمه ومذبح واحد، كما يوجد أسقف واحد مع القساوسة والشمامسة رفقائى فى الخدمة، وهكذا تتممون فى كل شئ إراده الله " (الفقرة الرابعة)
+ " لا يقطن الله حيث يكون الغضب والشقاق. الله يغفر لكل التائبين بشرط أن تقودهم توبتهم إلى الوحدة مع الله ومع مجمع الأسقف " (الفقرة الثالثة)
مواجهته للهرطقات: 
والآن نعود إلى تعاليمه بالنسبة للموضوعات الثلاثة التى عالجها فى رسائله، فلقد انشغل القديس اغناطيوس بالموضوع الأول وهو أهمية خدمة الأسقف وعمله، لأن كثير من المؤمنين اعتقدوا بأنه من غير الضرورى أن يشتركوا فى الإفخارستيا التى يقيمها أسقف المنطقة، وبالتالى فإنهم تشككوا وترددوا فى قبول فرادة مسئوليته المطلقة، وعليه أقدموا على تكوين جماعات تقسم الكنيسة وإقامة قداسات خاصة بهم.
 وهكذا كان من الممكن أن يصبح الأسقف وخدمته الرعوية " كأسقف " فى الكنيسة، خدمة ظاهريه بدون أساس لاهوتى . 
وهنا نجد أن القديس اغناطيوس قد واجه هذه المشكلة بطريقة لاهوتية وذلك بتوضيح ارتباط شرعية الإفخارستيا بالأسقف. ذلك لأن الأسقف " مرتبط " بالمسيح. وبالتالى، يجب أن يرتبط المؤمنين بالأسقف.
 فدور الأسقف فى الكنيسة لا يمكن لآخر إن يقوم به: " لا تأتوا عملا يخص الكنيسة بدون الأسقف. الافخارستيا الشرعية هى التى تتم بواسطة الأسقف أو من ينتدبه الأسقف " (سيمرنا8 :1).
 وذلك لأنه يخدم فيها كمثال الله حيث إنه "مثال الآب " (تراليا1:3)، وهو استمرار لعمل الرب والرسل وهو أيضا " فى مكان الله " (مغنيسيا1:6) وله " كمال قوة الله " (مغنيسيا1:3)
ويلاحظ الآب رومانيدس وجود هذا الارتباط بين الأسقف والافخارستيا فيكتب قائلا " نجد عند القديس اغناطيوس علاقة غير منفصلة بين الأسقف والافخارستيا، إذ أن الوحدة مع الأسقف والوحدة مع الآخرين فى الخبز الواحد وفى الهيكل هى حقيقة واحدة.
 فهناك جسد واحد للرب وكأس واحدة وهيكل واحد كما أن هناك أسقفًا واحدًا[4].. الليتورجيا هي مهمة الأسقف الذي ينبغي أن تُقام الأسرار كلها تحت إشرافه.. إن مائدة المحبة لا تتم بدون الأسقف"[5]
وفي موضع آخر يقول الأب رومانيدس: " إننا لا نستطيع فصل الأسقف عن المذبح. أما من هو خارج المذبح فليس خاضعًا للأسقف، من كان بعيدًا عن المذبح يُحرم من خبز الله... إن الأسقف كمركز للوحدة في الحياة الليتورجيبة السرائرية هو ضرورة قصوى للخلاص، لكن خدمته ليست مستقلة عن خدمة المؤمن"[6]
وهنا نرى أن القديس إغناطيوس قد عالج موضوع أهمية خدمة الأسقف ودوره، على أساس لاهوتي كما سبق القول، ولهذا كانت النقطة التالية في تعاليمه اللاهوتية هي الاهتمام بالموضوع الثانى وهو وحدة الكنيسة، ففي شخص الأسقف تكون الوحدة الحقيقية للكنيسة فارتباط الإنسان بالله يحتم عليه ارتباطه بشخص الأسقف وهو في نفس الوقت دليل على ارتباط الإنسان بالكنيسة، ولو لم يكن لدينا هذا الارتباط بين المؤمنين لم يكن لدينا بالتالي "الكنيسة الجامعة"، لهذا نراه يكتب إلى كنيسة سيمرنا قائلاً: " فحيثما يكون الأسقف فهناك الرعية، كما أنه حيثما يكون المسيح فهناك تكون الكنيسة الجامعة " (الفقرة الثالثة).
 والجدير بالذكر أن القديس إغناطيوس هو أول أب وكاتب كنسي يستخدم مصطلح "جامعة "  ليصف به الكنيسة.
ولم يرد هذا المصطلح من قبل عصر إغناطيوس، كما أنه جدير بالملاحظة أن هذا المصطلح لا علاقة له بكلمة " كاثوليكية " التي تُوصف بها الكنيسة اللاتينية الغربية في روما، بل هو مصطلح شرقي يستخدم في اللتورجيات الشرقية القديمة ومنها الليتورجية القبطية حيث تُوصف فيها الكنيسة بأنها " الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة (الكاثوليكية) الرسولية ".
 وذلك لأن هذا المصطلح يعبر في الأساس عن وحدة الإيمان كما يعبر عن خبرة روحية تُعاش عن طريق علاقتنا بالله الآب في المسيح يسوع بالروح القدس، وبالتالي فهو ليس صفة تُكتسب بالوجود في مكان معين.
 " فالكاثوليكي " بالمعني الشرقي هو كل مسيحي يجتمع بغيره في الإفخارستيا في وحدة الإيمان وفي حياة بذل لذاته من أجل الآخرين أو حسب تعبير القديس أغناطيوس هو مسيحي يتحلى بـ " أخلاق الله " (معنيسيا2:6).
 وهذه الأخلاق تبدأ بإنكار الذات. لهذا نجد أن القديس إغناطيوس يركز على هذه النقطة ويرجعها إلى بُعدها اللاهوتي فيقول: " وكما أن السيد لم يعمل عملاً بذاته ولا على يد رسله بدون الآب، لأنه واحد مع الآب، هكذا أنتم لا تأتوا عملاً بمعزل عن الأسقف والقساوسة " (مغنيسيا1:7)
والمشكلة أنه عندما يدخل الفكر غير المستقيم الذي يُنكر وحدة الجوهر بين الآب والابن يصبح موضوع علاقة الابن بالآب حجر عثرة، إذ أن مثل هذا الفكر عندما يسمع أن الابن لم يعمل عملاً بذاته، بدون الآب، فإنه يعتقد مباشرة أن الابن بدون إرادة خاصة. 
وفي المقابل يأتي الفكر المستقيم الذى يرى أن الابن لم يعمل عملاً بذاته بدون الآب لأنه واحد مع الآب في الجوهر كما يقول السيد نفسه (يو20:10)، وهذا ما يعبّر عنه القديس إغناطيوس في محاولته لإيجاد حل يعتمد على الأساس اللاهوتي، ومشكلة انقسام الكنيسة في عصره.
وهنا يكمن سر الكنيسة، بل وقوتها. إنه لا توجد إرادة مستقلة لأن الإرادة هنا إرادة واحدة. ويلفت القديس إغناطيوس أنظارنا إلى أمر آخر يتبعه الهراطقة وهو محاولاتهم لإيجاد مبررات وبراهين لانعزالهم وانفرادهم بعيدًا عن الكنيسة، فيخاطب أهل مغنيسيا قائلاً: " لا تحاولوا أن تدعموا بالبرهان ما تنفردون بعمله بل اعملوا عملكم حسب الشركة وهى صلاة واحدة ... فكر واحد ... هذا هو يسوع المسيح " (الفقرة السابعة1).
 وهنا نجد أن القديس إغناطيوس يشجب هذا التصرف مبينًا بطلان هذه المبررات ومعطيًا معيارًا دقيقًا للحكم على هذه الأمور وهو "الشركة".
 هذه الشركة تقوم في الأساس على الصلاة الواحدة والفكر الواحد والرجاء الواحد. هذه كلها من يسوع المسيح الذي بعمل الوحدة وبالشركة مع الآب.
 ويصل القديس إغناطيوس إلى الحقيقة وهي أنه لا قيمة بالمرة لِما تعملون خارج الشركة أي خارج " يسوع المسيح الذي لا يفضله شئ ". أي لا يسمو عليه شئ. ولما كان يسوع المسيح هكذا فإن القديس إغناطيوس كإنما يوجه سؤالاً إلى كل من يسعى لانقسام الكنيسة وتكوين جماعات من خارج لا تعمل تحت إرادة الأسقف الشرعي وفي شركة معه بقوله: فما هي قيمة أعمالكم خارج المسيح؟ والجواب الحتمي لهذا السؤال إنها في النهاية ستتبدد. 
ونأتي إلى النقطة الأخيرة وهي تعاليمه عن حقيقة سر الإفخارستيا لمواجهة الأفكار الخاطئة للدوسيتيين (الخياليين) والتى اخترقت الكنيسة ونادت بأن آلام السيد كانت آلامًا ظاهرية فقط، فقد علّم القديس إغناطيوس بأن آلام السيد هي آلامًا فعلية وأن هذه الآلام الفعلية وقيامته هى حتمية جوهرية لحضوره الفعلي في الإفخارستيا. فما يُعطى في الإفخارستيا هو دواء للخلود، وهي تقدمة مُعدة لتحفظنا من الموت تؤمن لنا الحياة الدائمة مع المسيح (انظر أفسس2:20).
 وسر الإفخارستيا يتحقق مدلوله فى اشتراك المؤمنين فيه كأعضاء في جسد المسيح، لهذا يقول القديس إغناطيوس موجهًا حديثه إلى أهل تراليا قائلاً:
 " يدعوكم يسوع بآلامه كأعضاء من أعضائه. لا يمكن أن يكون رأسًا بدون أعضاء، الله وحده الذي وعدنا بهذه الوحدة " (2:11).
 وهكذا تظهر الصورة الحقيقية للكنيسة في اتحاد المؤمنين في شخص المسيح ولهذا أمكن أن يدعوها إغناطيوس " كنيسة الله الآب وابنه المحبوب جدًا يسوع المسيح" (مقدمة رسالته إلى أهل سيمرنا) وأيضًا " كنيسة الله الآب وربنا يسوع المسيح " (مقدمة رسالته إلى أهل فلادلفيا). 
وهكذا نرى أن القديس إغناطيوس لم يكن فقط أول أب ومعلم للكنيسة بل كان أيضًا أول أب وكاتب كنسي يعتمد في تعاليمه اللاهوتية وكتاباته على استنارة وقيادة الروح القدس له، فقد كانت إجابات القديس إغناطيوس على المسائل التي تتعلق بالحق الإلهي هي نتيجة استنارته بالروح، فهو يعبر عن رأي الكنيسة في مثل هذه الأمور الخلاصية والحساسة فقط " لو أن ـ كما يقول هو نفسه ـ الله أعلن له شيئًا " (أفسس 1:20) وهو يؤكد لأهل فلادلفيا (فقرة7) إن ما كتبه لهم بخصوص ارتباطهم بالأسقف، كان الروح قد أعلنه له. 
خـــاتمة: 
+ إن مرجعية كل خدمة أو عمل دينى أو تعليمى يجب أن تكون مرجعيته مرجعية كنسية، بمعنى أن تكون مرتبطة بالكنيسة. 
+ هذا الارتباط يُبنى لا على أسس اجتماعية أو عرقية أو فئوية … الخ، بل على أسس إيمانية عقيدية راسخة، فإن اختل هذا الارتباط، فإن الأمر يتطلب مراجعة للنفس وتقويمًا للسلوك. 
+ يسمى آباء الكنيسة هذا الارتباط " بالشركة ". هذه الشركة، تبدأ بشركة الإيمان الواحد، بالمسيح الواحد، وبإفخارستيا واحدة تتم بواسطة الأسقف الواحد. (شرح معنى أوشية الآباء: وشريكه في الخدمة الرسولية). 
+ الشركة إذن هى التعبير الحىّ عن هذا الإيمان. وبالتالى فأى شخص أو أى مجموعة أيًا كانت مبرراتها أو ادعائاتها، لا تعيش في شركة الكنيسة ـ أى شركة الجسد الواحد ـ فهى تسعى وتعمل لا لوحدة الكنيسة وإيمانها الواحد، بل لانقسام الكنيسة بنشر أفكار غريبة مبررين بها انعزالهم بعيدًا عن الكنيسة. 
+ وشخص الأسقف هو رمز لوحدة الكنيسة والالتفاف حوله كنسيًا ومعايشة الافخارستيا الواحدة التي يقيمها الأسقف الواحد يكون علامة لتحقيق هذه الوحدة، فهو يمثل مع المؤمنين الصورة المنظورة لوحدة الكنيسة. 
+ يوصى القديس اغناطيوس ـ مثله مثل كل آباء الكنيسة الذين أقامهم الله لمواجهة الهرطقات والهراطقة عبر العصور ـ باليقظة والحذر واقتناء روح التمييز حتى يتجنبوا هؤلاء الذين يعلّمون تعاليمًا منحرفة. 
+ التوبة الحقيقية هى العودة إلى شركة الجسد الواحد، والتعبير الكنسى عن هذه التوبة هو الخضوع التام لشخص الأسقف. 
+ ومن هنا جاءت العبارة المشهورة " لا خلاص خارج الكنيسة " والتي تعكس البُعد الكنسى " الاكليسيولوجى "[7] في قضية الخلاص، وتنفى عنها بعدها الفردى. 


د . جوزيف موريس فلتس
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدرسات الابائية 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] القديس ايريناؤس : œlegcoj G3,1. 
[2] ذكصولوجية في يوم تذكار الآية العظيمة التي صنعها الرب مع القديس أثناسيوس يوم 30 توت، أنظر كتاب الذكصولوجيات المخطوط بالكنيسة المرقسية بالأزبكية. 
[3] يوسابيوس : تاريخ الكنيسة22:3. 
[4] واعتقد أن هذا هو السبب فى أن في كنيستنا القبطية لا يجوز إقامة إلاّ ليتورجية واحدة على المذبح الواحد بواسطة الكاهن الواحد للشعب الواحد. 
[5] الأب جون رومانيدس : لاهوت الكنيسة عند القديس أغناطيوس الإنطاكى، ترجمة الأب ميشال نجم، لبنان، ص 26. 
[6] المرجع السابق ص 26 ـ 28. 
[7] يُقصد بكلمة " الاكليسيولوجى " škklhsiolog…a : التعليم عن الكنيسة والذي يعالج مفهوم الكنيسة كجسد المسيح وأن المؤمنين هم أعضاء في هذا الجسد، وعمل المسيح الخلاصى من خلال أسرار الكنيسة.